ذكراه ظلت قرينة بـ “ضـي القناديل”
إلى الراحل كزار حنتوش
علي عبد الأمير عجام*
تحيل ذكرى وفاة المطرب عبد الحليم حافظ (30 آذار 1977) الى مفارقة طبعت حياته وفنه في آن : قوة في بناء اغنياته فكريا وموسيقيا تقابلها حال من التداعي والضعف في بنائه الجسدي.
ولناخذ اغنية "ضي القناديل" مثلا، ففيها تجسيد لمشاعر خاصة من مشهد عاشق منكفئ على خيبته، غير ان الحياة تنهض حوله ليجد مشاعره وهي تقوده نحو تطواف أبعد من الذكريات المتوقفة عند احساس الخيبة. ان هناك الكثير من الاشياء تدعو العاشق الى الحياة بقوة ، فيما اللحن في الاغنية مشغول بعناية وروحية آزرتا كل مقطع في النص حتى الايماءات التي توحي بشارع فارغ في الليل.
كما هي علامات قوة في التعاطي مع غناء نادر كان عبد الحليم يمثل صورة متقدمة منه، كما برزت في اغنية "المسيح" ففيها مزاوجه بين المعاني الكبيرة: الوطنية، التضحية والشخصي من المشاعر في لقاء قد لايتكرر مثيله في الاغنية المعاصرة. هناك "طريق الالام" و "القدس" في مشاهد للمسيح عبر اقدامه التي طبعتها وقطرات دمه ايضا. اغنية يصنفها بعضهم كـ "اغنية وطنية" غير انك تحبها كباقي اغنيات عبد الحليم العاطفية الخالصة، فيها رسم دقيق بالكلام وتجسيد لروح النص في لحن مؤثر.
ان ركود احلام اغنيتنا العربية الحالية واستغراقها في الاستعراض الموسيقي الاستهلاكي (غير بعض الاستثناءات النادرة )، جعلاها خارج القدرة على صوغ مقاربة موسيقية وادائية مفعمة بالروحية مثلما فعل صاحب "صافيني مرة" الذي عوض " ضعف" امكاناته الصوتية بصدق روحي في الاداء قل نظيره.
وعبد الحليم حافظ كان يأتي اغنياته من باب الوجل والقلق والخوف احيانا، من اجل ان تظل تلك الاغنيات مختلفة، وكان يولي امرها عناية فائقة: يتدرب كثيرا، يعيد، يدقق ليطلع بنتيجة تظل دائما تسجل علامات مختلفة على ماسبق من اغنيات. كان يحترم جمهوره وفنه، يعايش المفاهيم المولدة للتغيير، من هنا بدات مواظبته تيار الوعي الاجتماعي الذي تصاعد بعد تموز 1952 ، وسجلت اغنياته التي صاغها بكلام نادر الشاعر صلاح جاهين، قراءة واعية لفكر تلك المرحلة التي شهدت " قطيعة" اجتماعية وسياسية على الاغلب مع ايقاع الحياة مصريا وعربيا . وهذه المهمة لم تجد طريقها في اغنيات عبد الحليم بطريقة التسجيل المباشر والتقريري الفج للفكرة، بل صياغتها فنيا والعناية بصورة انسان تلك المرحلة وانفتاح الاغنية امام تيار تصويري للعوامل الفاعلة في تغيير المجتمع. ان اغنيات مثل "السد العالي"، "صورة" وغيرها، اغنيات "وطنية" حسب التسمية الشائعة لكنها اغنيات مختلفة، تعنى بفكرة الانسان وبيئته، احلامه وعاطفته الشخصية ايضا. بذلك اضاف عبد الحليم انجازا لم يكن قد تحقق من قبل في الاغنية العربية ، الا وهو صوغ اغنيات تتفوق على محدودية مفهوم الاغنية العاطفية.
يمكن للناقد والمتابع لمسار اغنية عبد الحليم حافظ ان يجد ثلاث مراحل تميزها. الاولى تبدأ من اغنية "صافيني مرة" و"عشانك ياقمر" وصولا الى اغنيات فيلمه "الخطايا-1962" ، وفيها الشفافية والرقة الصافية لحنيا ومفردة غنائية وطريقة في الاداء. فعبد الحليم دخل الموسيقى العربية وهي تحث الخطى نحو بناء علمي راسخ تتكون على أساسه، وحين برز وهو لم يزل شابا، فذلك جاء اعتمادا على ما اظهره من دراية ومعرفة باساسيات الموسيقى كعلم ودراسة صرفة، اضافة الى موهبته ، وروحه الرقيقة التي سكبها في صوته، روحه التي كانت نشطة في تحويل المشاعر الى اغنيات، وصوغ الواقع بطريقة أقرب الى الاحلام، ولكنها أحلام لها نكهة محسوسة، اغنياته الاولى سكب فيها هوى الشاب القادم من ارض المعاناة: الريف والحرمانات والالم، فبدت تلك الاغنيات وكانها انفعالات تحاول التعويض عن ذلك الالم، بامتلاك سعادة تمتد بين اغنية واخرى.
الارجح انها "رومانسية" تحاول ان تحلق بعيدا عن الوقائع العصيبة لذلك الولد الريفي، الذي طبع جسده بعلامة راسخة من تلك الايام (اصيب عبد الحليم بالبلهاريسيا القاتلة منذ مطلع حياته). أغنيات المرحلة الاولى هي لوحات صافية عن محبة تتفوق على الواقع، بكونها أمنيات للقفز من درجات السلم السفلي للحياة، والموسيقى في تلك الأغنيات مصاغة بطريقة تحفظ للكلام رقته. هنا لايمكن للمتابع الا ان يتذكر نموذجا لاغنية محبة رفيعة المستوى، كالذي تقدمه "انا لك على طول”.
ومالبثت ان انفتحت هذه المرحلة على مرحلة ثانية فيها تنويعات لحنية واختيارات جريئة لعبد الحليم في الموضوعات والقوالب الغنائية، وتميزت اغنيات مثل:"جبار"، "لاتكذبي"، و "بلاش عتاب" بنضج موسيقي قادر، على التجريب والانتقال من لحن الى اخر ومن جو الى اخر فهناك اغنيات مثل:"اعز الناس"، "ضي القناديل"،"الويل..الويل"، و "سواح". وكشفت أغنيات هذه المرحلة ايضا عن قدرة عبد الحليم في نقل شكل الاغنية العاطفية التي رسمتها اغنياته الاولى الى اشكال اخرى تقبل المغايرة والتلون مع ذائقة عصرها، دون الهبوط عن المستوى الذي حققته في الجودة. اغنيات المرحلة الثانية لعبد الحليم حسبها بعض النقاد هبوطا في فنيته ومستواه المعهود، ولكنها من ناحية اخرى انتقالة لذلك المستوى الى فضاء تعبيري اخر، ومن يتابع اغنيات اخر هذه المرحلة "جانا الهوى" واغنيات مثل "احضان الحبايب" و"ياخلي القلب" يجد ان عناية الاغنيات بموضوعة العاطفة والتعبير عنها اخذت منحى جديدا، لا علاقة له "بالهبوط" في المستوى كما اشارت بعض الاراء والمقالات النقدية التي تناولت تلك المرحلة من الانتاج الغنائي لعبد الحليم حافظ.
والمنحى المختلف في اغنيات المرحلة الثانية كان متوافقا مع المنحى الذي شكلته هزيمة حزيران 1967، فالبناء "العميق" فكرا وتجربة اجتماعية ميزت الفترة من منتصف خمسينيات القرن الماضي حتى منتصف ستينياته كشف لاحقا عن " هشاشة" توجها انهيار البناء الذي انتج اعتدادا روحيا وفكريا في " صورة" هي في حقيقتها صورة متخيلة عن " مجتمع عامل" وليست صورة الواقع الحقيقية.
اما المرحلة الثالثة التي عاشها ذلك النتاج، فتمثل في اغنيات طويلة ابتدأت من "زي الهوى" انتهاء باخر اغنية له "قارئة الفنجان". وتميزت اغنيات هذه المرحلة باحادية التعبير رغم البناء الموسيقي المطول، فكلمات عبد الوهاب محمد بدت عادية مثلما هي ايضا كلمات محمد حمزة، بينما كانت الحان بليغ حمدي ميالة الى الاستعراض عبر الاستعانة بالات موسيقية كهربائية غربية في الاوركسترا ومنحها حيزا كبيرا مثل الات:"الاورغ" و"الغيتار" تمثل في عزفها مقاطع مطولة او اجزاء كبيرة من تلك المقدمات الموسيقية التي عزفت بها اغنيات مثل "موعود"،"زي الهوى"و"حاول تفتكرني”.
ولم يكن الأمر بعيدا عن هذا التعيين كما في اغنيات وضعها لحنيا محمد عبد الوهاب مثل"نبتدي منين الحكاية" و"فاتت جنبنا"، وهو كذلك عند الحان محمد الموجي لاغنيات عبد الحليم خلال فترة الاغنيات الطويلة كما في "رسالة من تحت الماء" و "قارئة الفنجان" عدا لحنه الذي جاء في قالب الموشح وحملته اغنية "يا مالكا قلبي”.
غير ان عبد الحليم حافظ طبع بلمسات روحه التي لاتكل عن تحقيق صياغة مرهفة لمشاهر العاطفة، كل تلك الاغنيات، فينتهي عندها شوق المحبين في السبعينيات وتتصاعد معها آهات مراهقين كانت تتفتح مشاعرهم على طرقات ناعمة من صوته. بل ان احدى اغنيات تلك المرحلة مازالت معتمدة لطرد الاحزان عند كل من يزور قبر عبد الحليم حافظ، ففيه جو احتفالي خاص، فبالقرب من شاهدة القبر، تشتغل مكبرات الصوت ليصدح منها صوت عبد الحليم يغني:"اي دمعة حزن لا" التي اختارها شبان كونوا "رابطة عشاق صوت العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ" وفيها يدعون الى وضع الحزن جانبا، على الرغم مما يثيره المكان والقبر من إحساس، فعبد الحليم حسبما يقول أصدقاؤه: "مات ولكنه يحيا في داخل الاف النفوس التي احبته وبادلته المودة"، وعبد الحليم يغني حول قبره ليس عبر جهاز الصوت حسب، بل انه يغني من خلال الرفقة التي تتجدد بينه وبين موجات متعاقبة من الزوار.
كان عبد الحليم حافظ يزداد عذوبة كلما ازداد ألمه وإزداد نزفه. وصوره التي تكشف عن جسده الذاوي في فراش المرض، نقرأها الان بطريقة مختلفة لنجد روحيته تزداد قوة وتألقا، فكان يجد في مرضه فرصة لتحويل كل مافيه الى عناصر طيبة في اغنياته حتى وان كلفته الكثير من الجهد والعناء والتعب، وكان يزداد انفعالا حد ان يذهب مباشرة من المسرح الى فراشه ليتلوى ألما ويعض على شفتيه ليغالب نزفه.
قرية الحلوات: متحف “العندليب” المنهوب
واذا كان كتاب " اعز الناس" للمحامي والمنتج مجدي العمروسي وثيقة ورقية حميمة جاءت تحية رقيقة وصادقة للراحل حافظ وتاثيره الفني والانساني ، فان ثمة فيلما وثائقيا اجنبيا كان وثيقة صورية لافتة في قدرتها على اضاءة بعض جوانب الحياة الشخصية والفنية لصاحب " بلاش عتاب" اعتماداً على لقاءات مع فنانين عاصروه او عملوا معه، فضلا عن لقاءات مع اشقاء الراحل ومعارف واهل مكان عاشوا بدايات عمره، وعرفوه عن قرب شابا يحث الخطى نحو احلام تداعبه.
فضيلة الفيلم الاساسية تكمن في التركيز على روحية عبد الحليم، التي انتجت لاحقاً نمطاً من الاغنيات التي طبعت برومانسيتها مشاعر اجيال عديدة امتدت من الخمسينيات حتى نهاية القرن الماضي، حين انحسرالاقبال على اغنياته وبدا اقتناء اسطوانته اقرب الى استعادة نوستالجية لاجيال كان الراحل احد المؤثرين في روحيتها وعواطفها.
مشاهد الفيلم يتعرف على المكان الذي عاش فيه عبد الحليم حافظ: قرية الحلوات، ومنها ابتلى بالبلهارسيا الذي اصاب كثيرين من اهل الريف المصري. ذلك المكان غدا مهجوراً وموحشاً، فيما الملايين التي تركها الفنان الراحل لوارثيه كافية وببعض المساندة من الاجهزة الرسمية لتحويل المكان متحفا يضم متقنيات الراحل، واعماله ونوتات اغنياته وملاحظاته عليها ورسائله وعقوده وحتى ثيابه، فتأثيره في مصر والعالم العربي يستحق كل هذا الاهتمام، مثلما لاقى مغنون وفنانون شعبيون اهتماما يرقى الى تخليد ذكراهم على امتداد مناطق عدة في العالم ، خذ "متحف الفس برسلي" في اميركا مثلا.
وفي حين طبع عبد الحليم بصماته بقوة في سيرة الغناء العربي المعاصر، فان ملامحه كان لافتة في حضورها عبر شاشة السينما، وفي الفيلم الوثائقي تبدي الممثلة الراحلة مديحة يسري انفعالات رقيقة وصادقة حين تروي حكايات عن معرفتها بعبد الحليم وعملها معه في فيلم "الخطايا" مثلما تتحدث النجمة نادية لطفي عن دوريها مع الراحل في فيلمي "الخطايا" و"ابي فوق الشجرة"، فيما انصب حديث المخرج عاطف سالم على ظروف فيلمه الناجح لعبد الحليم "يوم من عمري" والذي تضمن واحدة من اجمل اغنيات الفنان الراحل التي حملت عنوان الفيلم ذاته.
في الفيلم استخدام موفق لفكرة القدرية التي اطاحت بكثير من احلام الراحل الاسمر، عبر لقطات من سرير عبد الحليم الموحش وصوته مغنيا "لست ادري”، او تلك اللقطات لانفعالات صاحب الجسد الواهن ونوبات المرض اثناء البروفات او الغناء، وهي لقطات مأخوذة اصلاً عن فيلم اخرجه يوسف شاهين عن عبد الحليم لكنه ظل معنيا بالاطار الخارجي للمطرب الظاهرة دون الوصول الى جوهره الروحي.
في الفيلم الوثائقي المنتج لصالح قناة بريطانية لمسات لم يستطع صوغها صاحب فيلم " المصير" حين اخرج فيلمه عن عبد الحليم ، ومن تلك اللمسات حكايات رواها موسيقيون خبروا الراحل عن قرب ، مثل عازف الساكسفون سمير سرور الذي طالما وقّع على الته انغاما بصحبة " الفرقة الماسية" وهي الاوركسترا التي قادها الراحل احمد فؤاد حسن ورافقت حافظ في سنواته العشر الاخيرة .لمسة سرور كانت طريفة وذكية وجوابا عن سؤال: من هو عبد الحليم عند سمير سرور؟ وقف العازف مثلما كان يفعل حين يعزف فواصله الانفرادية مع " الماسية" ليؤدي اللحن الاساس في اغنية" جانا الهوى”.
في استعادات سنوية كثيرة لذكرى الراحل لم يجرؤ تلفزيون مصري او عربي على صوغ فيلم بربع مواصفات الفيلم الاجنبي ، بينما يسهب متحدثون وكتاب وموسيقيون في احاديث لا جديد مؤثرا فيها عن صاحب " موعود" ،فتبدو الذكرى استعادة "خافتة" لـ" ضوء" روحي جاء في سيرة اغنية.
عبد الحليم حافظ : الانسان والمغني رسم صورة شفافة عن اجيال كانت تتطلع لتشغل مكانا مميزا في مجتمعها، واغنياته التي رافقت احلاما مصرية وعربية ، كبرت معه وازدادت غضبا مع الفترات الحرجة التي عاشتها ومااكثرها. كل ذلك رسم له مكانة من العسير تجاوزها،وهو النائم الذي مازال يوقظ احلامنا،ومشهد الملايين التي ودعته الى مثواه الاخير كان مميزا ومسيرات الحزن التي خيمت بعد وفاته على المشاعر العربية من اقصى الوطن العربي الى اقصاه، كانت تمجد الفكرة التي اعلنها عبد الحليم حافظ في اغنياته: الاحتفاظ بالمعاني النبيلة للانسان وزجها في مختلف فترات حياته كونها رصيده النهائي.
غربة الحالم في بلاده “الواقعية”
ليس غريبا ان يصبح حالم ومستغرق في "اوهامه" الموسيقية والعاطفية مثل عبد الحليم حافظ محط نقد عنيف وان يلحق قسرا بالمرحلة السياسية التي عايشها الراحل وكان من ملامحها الثقافية، ومثلما نالت "الناصرية" نصيبها من المراجعة الموضوعية احيانا والنقد القاسي احيانا كثيرة ، نال حافظ نصيبا من الهجمات اللاذعة التي لم تتردد في وصفه " بوق الناصرية" وجعله مسؤولا عن اشاعة وهم وجداني عن " قوة" البلاد ليس اقل من مسؤولية " الزعيم الخالد" وجنرالاته عن الهزيمة.
الشق الاخير من نقد المرحلة يقارب الهزيمة من منظور صعود الحكم الفردي القائم على قوة "باطشة" داخليا ، و"خاوية" حد الخذلان خارجيا ، ويشير الى ان مصر عادت الى " الواقعية" السياسية والفكرية بعد حرب اكتوبر 1973 واقرار السلام مع اسرائيل ، غير ان فحص تلك "الواقعية" يؤكد ان الاساس الثيوقراطي للدولة المصرية لم يتغير كثيرا في جوهره وان كان حقق خطى مهمة في مجال حريات التعبير وحقوق الانسان. وفي حين قدمت المرحلة " غير الواقعية" تجارب ثقافية لافتة وفي الموسيقى تحديدا، تجارب اعتمدت المواهب الاصيلة والمعرفة المتحصلة بالدأب والمثابرة، فان " المرحلة الواقعية" قدمت رهطا من الاميين الذين تسيدوا المشهد الموسيقي المصري لجهة تأثيرهم في الوجدان الشعبي ، ومن لم يتحصل على موهبة لافتة من موسيقيي مصر ومطربيها كان يعوضها بالمعرفة والتحصيل العلمي، وتلك ميزة " المرحلة الواهمة" ،بينما نجد المطرب " الشعبي" الامي ليس لغياب تحصيله العلمي وحسب ، بل لتدني ذائقته، نجده وقد اصبح رمزا " واقعيا" اصدق من الموهوب موسيقيا والمهذب روحيا والذي انتجته المرحلة " غير الواقعية”.
هذه المقاربة نجدها في قول للمطرب والمؤلف الموسيقي محمد نوح في نقده ظاهرة عبد الحليم حافظ ، فصاحب موسيقى فيلم "المهاجر" للمخرج يوسف شاهين، يعتبر عبدالحليم ومجايليه "كاذبين" ورموز مرحلة الوهم السياسي والاجتماعي ايام صعود الناصرية.
نوح الذي تحدث في برنامج "زمن الفن الجميل" ضمن بث "قناة النيل للمنوعات"، لا يتردد في وصف شعبان عبدالرحيم، بممثل " المرحلة الواقعية" وهو بالتالي اصدق من حافظ ممثل مرحلة " الوهم " الناصرية .ويحمل الكاتب مجدي الطيب* بعنف على نوح " كالقطار الذي أصابه عطب فعجز قائده عن الوقوف في المحطة ،انطلق محمد نوح بسرعة إلي المحطة التالية مباشرة وقال بشجاعة لا نعرف مصدرها.. "من ينكر أن "شعبان" كان صادقاً عندما قال: "ح ابطل السجاير من أول يناير، واكون انسان جديد" ، بينما لم يصدق أحد المطرب الذي غني "نفوت على الصحرا تخضر" ( غناء حافظ وشعر صلاح جاهين)لأنه قال هذا بينما رقعة الأراضي الزراعية في تراجع وانحسار ، تماماً مثل أولئك الذين غنوا "وطني حبيبي.. وطني الأكبر يوم ورا يوم أمجاده بتكبر.. وانتصاراته مالية حياته".. بينما الواقع -كما يقول نوح- يكذب الأغنية.. وبالتالي أري -يواصل نوح- أن "شعبان" كان يحلم بالممكن بينما أغاني الستينيات كانت تحلم بالمستحيل”.
نبرة الطيب تمضي في نقد " واقعية" محمد نوح " لاحظوا انه يتحدث عن "شعبولا" وليس عن رجل سياسة مخضرم، فكل حلمه كان ينحصر في أن يكون انساناً جديداً، وأن "يشتري قميص جديد" واختار أن يكون هذا من "أول يناير" وهو حلم اختار أن يكون صغيراً، وأن يكون "على قده" وبحجم "واقعه" فكان أكثر صدقاً وتعبيراً عن الناس -هكذا يقول نوح- وبالتالي أصبح قادراً علي تحقيق "الممكن" بينما انتابني شعور عميق عندما "انهزمنا" في يونيو 1967 أن الأغاني تتكسر، ولم أعرف السبب حتي استمعت إلى "شعبان" فأحسست انه قادر على تحقيق الحلم ،علشان مصغر الحلم”.
قد يكون حافظ ومجايلوه نتاجا طبيعيا للمرحلة " غير الواقعية" ، وقد تكون مغناة "وطني الأكبر" تعبيرا وهميا عن " وطن عربي واحد" ، غير ان مراجعة للبناء الفني في موسيقى تلك المرحلة واغنياتها تكشف غنى تعبيريا يكتسح ،مع انه " وهم" ،الاثر الغنائي للمرحلة " الواقعية"، حتى ليبدو غير الواقعي و" الوهمي" اكثر حضورا وتاثيرا من " الواقعي”.
فات محمد نوح حين تحدث عن "عدم صدقية" اغنيات عبد الحليم واوهامها الوطنية والقومية ان يؤشر لموقع كان يشكل مقتلا لا في سيرة صاحب "بحلف بسماها وبترابها" وحسب، بل في سيرة محمد عبد الوهاب شريكه المهم في اغنيات المرحلة الناصرية ، فالاثنان انطويا "واقعيا" على غير المعطى الفكري والوجداني في فنونهما، حين كانا مؤسسة "مكائد" احتكرت لفترة طويلة جانبا من الانتاج الغنائي والسينمائي، وحاربت، بحسب ما تنقل مرويات متطابقة، تجارب غنائية ولحنية ليست بالقليلة ليظلا متمتعين بسيادة لايشاركهما فيها احد. غير اننا لو عدنا الى موت عبد الحليم، لوجدناه متزامنا مع مرحلة صعود " الواقعية السياسية " وظهور رموزها الموسيقية والغنائية الشعبية التي بدأت من احمد عدوية وصولا الى شعبان عبد الرحيم الذي لاتبدو اغنيته " انا بكره اسرائيل وبحب عمرو موسى" مؤشرا " واقعيا" رغم ثناء محمد نوح لشعبولا بوصفه " واقعيا" و" صادقا" بمقابل وهم يقارب الكذب انتجته ظاهرة عبد الحليم حافظ. وليس مفارقة "وهمية" ان يتزامن تراجع فني في اغنياته مع صعود " الواقعية" السياسية والفكرية في بلاده ، مثلما هو تزامن طبيعي ان يموت عبد الحليم مع مفترق مهم في الحياة العربية (بموته كمن كان يرثي لمجايليه احلامهم وفكرتهم عن الحب والحرية والمجتمعات الحية ،ونهاية ربيع الحداثة العربية القصيرلصالح المحافظين وقوى الاسلام الاصولي) وفي الحياة المصرية بخاصة (مات في العام 1977 بعد شهر على اصوات غاضبة كانت ملأت الاسماع في القاهرة ، اصوات طلاب وشبان غاضبين على "خبز اغلى" انتهى اليه انتصار بلادهم في حرب اكتوبر 1973). ثمة معتقلات " واقعية" كانت تكتظ بالحالمين و"الواهمين" ، حين كان سرير عبد الحليم يكتظ بعقاقير ومسكنات الم عبثا كانت ستوقف العلة التي نخرت الجسد الواهي للمغني الرقيق.
مات عبد الحليم ولكن ثمة قلوب تتحسسه، لينهض قريبا منها ، شفافا ولطيفا، بل كثير الاناقة في عالم "واقعي" يعتريه القبح الشديد.. عبد الحليم: سبع اقدام تحت التراب لكنه مايزال يغني.